صباح جديد على المدينة التي لا تهدأ، أشعة الشمس تعلن عن بدء يوم جديد، موج البحر ساكن هذا اليوم، رياح الشمال تداعب وجوه المارين في شوارع مدينة الرصاص، تحمل معها المجهول، الاتكال على الله هو سمة هؤلاء الآمنين المؤمنين، كل منهما يأمل فى صباح هادئ غير الليل الذي قتل سكونه أصوات الطلقات المتناثرة في أرجاء مدينتهم، من منهم يعلم أن الموت ينتظره على أعتاب حياتهم ذي الأحلام البسيطة.
لم تزعج أصوات الرصاص يومًا عم وليام، ولم تمنعه من الاستيقاظ في الصباح الباكر ليتناول فطوره، ويشق الشوارع المضطربة بوجه الناس والأطفال المتجهين لأعمالهم ومدارسهم، ليصل أخيرًا إلى محله، يداعب جيرانه وزملاءه كعادته كل صباح، لازالت الابتسامة تفيض على شفتيه، دون أن يدرك أن بريق ابتسامته سيمحوها رصاص الغدر، لتصبح مجرد ذكرى في قلوب من أحبوه.
أمام محل عم وليام ميشيل فرج، اتجهت سيارة بظهرها حتى استقرت أمام باب "الدكان"، بداخلها 4 ملثمين، قام أحدهم بالوقوف على أول الشارع، قائماً بدور "الندورجي"، واتجه الشخص الآخر في محاولة منه لخطف عم وليم وإجباره على ركوب السيارة بالقوة، ولكن عم وليام قاوم وقام بمحاولات يائسة، حتى كاد أن ينجح في سرقة السلاح من يد أحد الملثمين، ولكن داهموه بسرعة، عاد وصاح مستغيثاً بالأهالي فقدموا مهرولين لنجدته، ليسرع أحد الملثمين بإطلاق عدة أعيرة نارية في الهواء لتفريق الأهالي.
"مش عايزين في وسطنا مسيحي كافر".. كانت آخر الكلمات التي سمعها وليام، قبل أن تستقر الطلقات النارية في بطنه ورأسه، ليرتقي شهيدًا، وسط ذهول من المارة والحضور، الذين شاهدوا عملية قتله، ولم يملكوا سوى البكاء، بحسب ما يروي ابن الفقيد هاني وليام لـ"الوطن".
عاش وليام ميشيل 40 سنة في مدينة المحلة بمحافظة الغربية، منذ أن ولد في 21 أكتوبر عام 1952، قبل أن يتركها ويتوجه إلى مدينة العريش في شمال سيناء طالبًا للرزق، حيث كانت المرة الثانية التي يجيء فيها إلى سيناء، فبحسب ما يروي ابنه، فإن وليام كان من أبطال حرب أكتوبر 1973، حيث شارك في العبور والنصر.
ويتحدث ابنه عن تلك الفترة قائلاً "جاءت حرب أكتوبر وكان والدي من الجنود الذين شاركوا في نشوة النصر والعبور، قاتل في سيناء حتى أحبها، كان مستعدا لأن يموت دونها، توقع في أي وقت أن يموت بشرف وهو في أرض النزال على يد العدو الصهيوني، وأي ميتة أشرف من هذا، ولكنه لم يتخيل لحظة أن بعدما كتب له الله الخروج من الحرب سالماً، أن يقتل على يد أبناء وطنه لدينه وليس لكونه مصريا، تعهد على نفسه بالعودة لأرض الفيروز عقب انتهاء الحرب حتى يبدأ حياته بين كثبان تلك المدينة التي اختلطت بدماء شهداء جنودنا الذكية.
عاد وليام للعريش في بداية التسعينيات، وقام بفتح محل لسن السكاكين، وأنجب طفلين أصبحا رجلين، الأكبر مدرس والأصغر أخصائي اجتماعي، عاش حياة هادئة طيبة بين جيرانه، "والدي مكنش بيعادي حد وكل الناس بتحبه"، كلمات تخلاطها الدموع ينطق بها هاني نجل الفقيد، والذي يفخر بوالده، "والدي قتل كجندي مرفوع الرأس يدافع عن كرامته وحياته حتى اللحظة الأخيرة".
"مهما حصل مش هنسيب العريش".. هذه كانت وصية وليام لابنه البكر هاني، والذي يصر على تنفيذ هذه الوصية، "دي كانت رغبة والدي ولازم ننفذها، أنا مدرس وأخويا أخصائي اجتماعي، يعني إحنا الاتنين متخرجين وشغالين في العريش".
يغضب هاني بشدة من التصريحات التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام عن أن والده قتل أثناء محاولته الفرار، "أبويا قاوم للحظة الأخيرة ورفض إنه يسلم نفسه ليهم، أبويا مات شهيد مش مات عشان الناس دي حاولت تسرقه"، مضيفاً "أنا مش عايز من البلد غير إنها تعترف إن أبويا مات شهيد، زي مكان مستعد يموت وهو في الجيش في حرب أكتوبر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق